في حفلها المنفرد الأول بالبحرين أحلام .. تختزل التاريخ بأناملها المخلصة
كيف لك ان تصف الحلم وهو يتحقق؟ تأتي لنا مشحونة بالتاريخ الموسيقي بعصوره المختلفة، لتقدم نفسها من جديد وتقول لجمهور يكاد يفتك به الزهايمر لفرط الرتابة: (لن تنسوني بعد هذا الحفل).. حقاً كانت أمسية مليئة بالتألق والإبداع، الذي لمسناه منذ بدايات هذه الفتاة التي تأتي للبيانو بصمت وخجل لتعزف حركة من كونشرتو بمصاحبة أوركسترا الإتحاد الأوروبي! لم تكن سهلة وقتها هذه البدايات. وفي يوم كهذا بعد كل هذه السنين من البحث و صقل المخيلة الموسيقية عندها.
اختارت أحلام (أو ربما كانت صدفة تليق بها) أن تكون أمسيتها في نفس اليوم الذي يلعب فيه بلدين عربيين ضمن فعاليات المونديال!! مما جعل جمهور هذه الليلة حميماً، لدرجة أنني أردت أن أقترب أكثر من البيانو وأنا استمع لها وهي تجوب المدارس الموسيقية بتنوعها، أنا ومجموعة عاشقة للموسيقى من طلبتي في الجامعة الذين يمرون في أصعب مرحلة من الامتحانات النهائية، لكنهم يتركون كتب إدارة الأعمال والكومبيوتر كي يأتوا للاستماع لأحلام وهي تعزف. وكانت حركة ذكية من مهندس الصوت في الصالة انه خلق جواً بعيداً عن السماعات الجهورة للمسرح مما أعطى جواً حقيقياً للنغمات وهي تتدفق في الأرجاء (فلم تكن هناك سماعات في الصالات التي عزف فيها باخ و هايدن).. والكلمة الجميلة التي وزعت علينا عند الدخول، التي سردت مشوار أحلام في البحث عن النغمات بين القارات كانت رقيقة وتدل على رشاقة أحلام الذهنية وإصرارها على التميز في أي مجال تطرق بابه.
من حضر الحفل سيلاحظ الذكاء في اختيار وتنسيق البرنامج التي قدمته أحلام.. ففي حفلها المستقل الأول، تحاول أحلام (بل تنجح) في التعريف عن قدرتها على اقتحام أكثر من مدرسة موسيقية، بتقنياتها وأحاسيسها في صياغة الألحان، واستطاعت أن تتفادى ما يقع فيه كثير من العازفين المنفردين و حتى الفرق التي تقدم الموسيقى الكلاسيكية (أو الموسيقى الجادة بشكل عام) حيث يكون الحفل عبارة عن موسيقى لعصر معين من عصور الموسيقى الغربية، وهذا في حد ذاته ليس عيباً، بل يعتبر تخصصاً في حقل من حقول الإبداع الموسيقي، لكن أحلام ارتأت أن تطل علينا في تجربتها المنفردة الناضجة بكل ما تحوي من قدرات، كي نتأكد من أنها جديرة بكل هذا التنوع الموسيقي، ثم بعد ذلك لها أن تختار ما تريد من مدارس لتتخصص في عزفها.. (حقاً هذا شيء مبهر) لفتاة لم تتجاوز الثامنة عشر من العمر.
فقد استهلت الحفل بموسيقى يوهان سباستيان باخ الذي يعتبر من أهم المؤسسين لموسيقى السلالم الكبيرة والصغيرة التي نتعاطاها في الوقت الحالي، فقد بذل جهداً ضخماً لكي يمحو من ذاكرة أبناء عصره ملامح موسيقى المقامات الجريجوريانية التي استعمرت الموسيقى الكنسية، وقد أتقنت أحلام آلية العزف على البيانو كما لو كان (هاربسيكورد) فأعادتنا إلى موسيقى الباروك المليئة بالزخارف اللحنية خصوصاً في المقدمة، أما بالنسبة للفوغا (وهي من الأعمال الصعبة حقاً) فقد أسمعتنا تدفق الألحان المتتالية بوضوح وثقة. وما إن فرغت من الباروك حتى طرقت باب العصر الكلاسيكي بموسيقى جوزيف هايدن (أبو السيمفونية) حيث اكتفت بالحركة الأولى من سوناتا سلم صول الصغير.
ثم أخذتنا إلى عمل يعتبر من كلاسيكيات القرن العشرين حيث قدمت المؤلف المجري زولتان كوداي بتأملاته على لحن كلود ديبوسي المليء بالحلم. وبعد أن أخذتنا في هذه الجولة بين العصور الثلاثة، تركتنا كي نستريح قليلاً ونستعد لما ينتظرنا من فراشات، حيث عادت لنا بيدين مليئتين بالفراشات الموسيقية التي اقترحها روبرت شومان الألماني الذي عانى كل أنواع العذابات النفسية والجسمانية في حياته، لكنه لم يتخلى عن فراشاته التي سردتها لنا أحلام واحدة تلو الأخرى بمنتهى الإخلاص والنعومة. فتجلت لمساتها بالصبغة الرومانسية المتأخرة حيث ولد شومان وكلارا معاً!!
بعد ذلك لم تنس أحلام أن تطل على الموسيقى الأسبانية و الفلامنكو المتمرد حيث "إرنيستو ليكونا" يرسم موسيقاه (الملاجوينا) بروحها الثائرة والتي أيقظت أحلام من أحلامها كي تدخل في مبارزة بين لحني المقطوعة اللذين يشبهان (الموتادور) في صراعه مع الثور.
وبعد انتهائها من تقديم هذا البرنامج المتنوع والذي أثبتت من خلاله أنها جديرة بأن تمثل هذا البلد الصغير في الأرض الجديدة. لم تنس أن تهدينا مقطوعة موسيقية من أجمل ما ألّف كلود ديبوسي وهي موسيقى (آرابيسك)، هذه الموسيقى التأثيرية الحالمة والغارقة في الصور المبهمة. كيف لي أن أصف الرحلة المتنوعة التي أخذتنا فيها أحلام، وكأنها حققت أحلامنا بأناملها وذهبت. نعرف بأنها ستذهب إلى قارة بعيدة عنا، لكن نعرف أيضاً أنها ستعود لنا بموسيقى أجمل كي تسكبها في قلوبنا علّنا نقتنع بأن للموسيقى فعل السحر في الليل والصديق في السفر، والحبيبة في الغياب، وكانت أحلام خير دليل على كل ذلك. فهنيئاً لنا أن تكون بيننا عازفة مثلها.